بسم الله الرحمن الرحيم
ا
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وبعد:
إنَّ الفتن الملمَّة والأحداث المدلَهمَّة إذا حلَّت بالناس ونزلت بِهم أظهرت حقائقهم وكشفت معادنَهم وميَّزت طيبهم من خبيثهم وحسنهم من سيِّئهم, ولله الحكمة البالغة في ذلك ليميز الخبيث من الطيب وهذه من حكمة الله في ابتلائه خلقه؛ قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ﭐلْمُجَٰهِدِينَ مِنْكُمْ وَﭐلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31), والحياة كلها ميدان ابتلاء ودار امتحان والناس فيها ليسوا سواءً فمنهم {مَن يَعْبُدُ ﭐللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ﭐطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﭐنقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ ﭐلدُّنْيَا وَﭐلأَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ ﭐلْخُسْرَانُ ﭐلْمُبِينُ} (الحج:11).
إنَّ للإيِمان الصحيح والعقيدة السليمة أثراً قوياً ودوراً بارزاً في التغلب على الأحداث والملمَّات والمصائب والمحن والنوازل والفتن, وذلك أنَّ صاحب الإيِمان الصحيح والعقيدة السليمة تعلم من دينه أموراً مهمة ودروساً عظيمة تعينه على الثبات في الأحوال ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
ومن أهم هذه الأمور ما يلي:
أولاً: أن يعلم علم يقين لا يُخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له, وأنَّه وحده المتصرِّف فيه, وأنَّه لا يكون إلاَّ ما شاء الله تبارك وتعالى فأزمَّة الأمور كلها بيده عز وجل.
ثانياً: أنَّ الله جلَّ وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيِمان وحفظ أهل الدين ووعد بذلك ووعده الحق؛ وأخبر بذلك في كتابه, وكلامه صدق وحق, قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ﭐلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ﭐللَّهَ يَنصُرْكًمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (مُحمد:7).
ثالثاً: أنَّ الله وعد في كتابه بِخذلان الكافرين وإبادتِهم وقصم ظهورهم وقطع دابرهم وجعلهم عبرة للممترين وعظة للمتَّعظين كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ﭐلسَّوْءِ} (الفتح:6).
رابعاً: أن يعلم المؤمن أنَّه لن تَموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها وتَستَتِمَّ رزقها, فلن يَموت أحدٌ قبل منيَّته ولا بعدها؛ قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس:49).
خامساً: أنَّ المؤمن لشدة ثباته وقوة يقينه لا تزعزعه الأراجيف ولا تُخوِّفه الدعايات بل إنَّه إذا خُوِّفَ بالذين من دون الله ازداد إيِماناً وثقة بالله وتوكلاً واعتماداً عليه كمثل الصحابة رضي الله عنهم {ﭐلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ﭐلنَّاسُ إِنَّ ﭐلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيِمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ﭐللَّهُ وَنِعْمَ ﭐلْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ﭐللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَﭐتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ﭐللَّهِ وَﭐللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:174,173).
سادساً: التوكل على الله مع بذل الأسباب؛ قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ﭐللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:3).
فقد كان صلى الله عليه وسلم وهو سيد المتوكلين يقوم بفعل الأسباب فقد ظاهر بين درعين يوم أحد, واستأجر دليلاً مشركاً يدله على الطريق في الهجرة.
سابعاً: التوبة إلى الله عمَّا حصل منَّا أو من بعضنا من المخالفات لديننا وعقيدتنا, والله تعالى يقول: {وَﭐتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ﭐلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَﭐعْلَمُواْ أَنَّ ﭐللَّهَ شَدِيدُ ﭐلْعِقَابِ} (الأنفال:25). وفي وقعة أحد لَمَّا حصلت مُخالفة من بعض الصحابة سلط الله الكفار على المسلمين وحصلت النكبة على المسلمين بسبب تلك المخالفة, وهذه سنة الله في خلقه فهل نَحن خيرٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلينا أن نُحاسب أنفسنا ونتوب إلى ربنا ليكشف ما بنا.
ثامناً: الاعتصام بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالِح, قال تعالى: {وَﭐعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ﭐللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران:103), وقال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى ﭐخْتِلاَفاً كَثِيراً؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ ﭐلْخُلَفَاءِ ﭐلرَّاشِدِينَ ﭐلْمَهْدِيِّنَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُواْ وَعَضُّواْ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ, وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ ﭐلأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ؛ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
تاسعاً: الحذر من كيد أعدائنا من الكفار والمنافقين الذين يريدون صرفنا عن ديننا؛ قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ﭐلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ﭐلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ * بَلِ ﭐللَّهُ مَوْلَـٰـكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّـٰصِرِينَ} (آل عمران:150,149), وقال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ ﭐلْيَهُودُ وَلاَ ﭐلنَّصَٰرَىٰ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120).
عاشراً: لزوم جَماعة المسلمين والسمع والطاعة لولاة أمور المسلمين كما ثبت في الصحيحين في حديث حذيفة رضي الله عنه لَمَّا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ظهور الفتن ووجود دعاة يدعون إلى جهنَّم؛ من أطاعهم قذفوه فيها, ووصفهم بأنَّهم قوم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا, قال له حذيفة: «فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ ﭐلْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُم».
الحادي عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على أداء الفرائض واجتناب المحارم, قال تعالى: {ﭐلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيِمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ﭐلأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام:82). فهذه الآية دلت على أنَّ التوحيد والسلامة من الشرك سبب لتوفر الأمن وحصول الاهتداء وثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ﭐلْعِبَادَةُ فِي ﭐلْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ».
وفي هذا الحديث فضل العبادة في وقت الفتن قال تعالى: {وَﭐسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَﭐلصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَىٰ ﭐلْخَٰشِعِينَ} (البقرة:45), و«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة».
الثاني عشر: الرجوع إلى العلماء الربانيين والأخذ عنهم وسؤالُهم عمَّا أشكل عليهم قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ ﭐلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:43), وأهل الذكر هم العلماء الربانيون, قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ﭐلأَمْنِ أَوِ ﭐلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ﭐلرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي ﭐلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ﭐلَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83).
الثالث عشر: الحرص على الرفق والتأني والحلم فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثبت عنه في الصحيح قال: «مَا كَانَ ﭐلرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ, وَلاَ نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».
وقال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس «إنَّ فِيك لَخِصْلَتَنِ يُحِبُّهُمَا ﭐلله وَرَسُولُهُ ﭐلْحِلْمُ وَﭐلأَنَاةُ».
فالحلم والأناة مطلوبة في معالجة الأمور وعدم الاستعجال وضبط النفس ولِهذا ذمَّ الله تعالى الإنسان حيث كان عجولاً لأنَّ هذه الخصلة من كانت فيه كان مذموماً به ولِهذا كان النبي صلى اله عليه وسلم غير متعجل.
الرابع عشر: عدم الحكم على الأشياء إلاَّ بعد تصوُّرِها, رعاية لقاعدة «الحكم على الشيء فرع عن تصوره», قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء:36).
أن يتصور القضية المطروحة تَماماً وأن يعلم حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بعينها, وهكذا فيكون متثبتاً في الأمور ناقلاً أخباره عن الثقات.
الخامس عشر: ضبط الأقوال والأفعال فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره وليس كل فعل يبدو لك حسناً تنقله لأنَّ في الفتن قولك وفعلك يترتَّب عليه أشياء, قال أبو هريرة رضي الله عنه: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ ﭐللَّهِ صَلَىٰ ﭐللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعَاءَيْنِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ, وَأَمَّا ﭐلآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقَطَعَ هَذَا ﭐلْحُلْقُومَ» رواه البخاري في صحيحه.
يعني أنَّ أبا هريرة كتم أحاديث في الفتن في ذلك الوقت خشية أن يترتَّب عليها فتنة بين النَّاس.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه مسلم في صحيحه: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْماً حَدِيثاً لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهم إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً».
السادس عشر: الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل من أسباب كشف الغمَّة وتفريج الكربة, قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآء وَﭐلضَّرَّآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (الأعراف:94).
السابع عشر: الحذر من تصديق الإشاعات بِمجرد سَماعها لأول مرة ومن ثُمَّ السعي في نشرها وبثها بين النَّاس وإصدار الأحكام بناء على تلك الإشاعة.
الثامن عشر: الاعتبار والنظر في النوازل السابقة التي حصلت في الأمة وكيف تَمَّت معالَجَتُها, قال تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي ﭐلأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ﭐلْمُجْرِمِينَ} (النمل:69).
التاسع عشر: تَحذير المجتمع عموماً والشباب خصوصاً من الأفكار الهدامة والمناهج المنحرفة والرد على شبهاتِهم صيانة للمجتمع من تلك الأفكار وحِماية له من مناهج الضلال.
العشرون: دعوة الأمة إلى الحرص على العلم النافع المثمر للعمل الصالِح؛ وأخذ العلم من علماء السنة, فكلَّما كان على علم كان على نور من الله وبصيرة, قال تعالى: {ﭐلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ ﭐللَّهُ} (التوبة:97). قال الشيخ السعدي رحِمه الله في تفسيره للآية: «فضيلة العلم وأنَّ فاقده أقرب إلى الشر مِمَّن يعرفه, لأنَّ الله ذم الأعراب وأخبر أنَّهم أشدُّ كفراً ونفاقاً وذكر السبب الموجب لذلك وأنَّهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله»إ.هـ.
وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ﭐلَّذِينَ ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ﭐللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَﭐللّهُ ذُو ﭐلْفَضْلِ ﭐلْعَظِيمِ} (الأنفال:29).
قال الشيخ السعدي رحِمه الله: «أنَّ من اتقى الله عز وجل جعل له أربعة أشياء كل واحد منها خيرٌ من الدنيا وما فيها؛ الأول: الفرقان وهو العلم والهدى الذي يفرِّق به صاحبه بين الهدى والضلال والحق والباطل والحلال والحرام وأهل السعادة من أهل الشقاوة, إلخ»إ.هـ.
ولذلك فإنَّ العالِم يعرف الفتنة إذا أقبلت والجاهل يعرفها إذا أدبرت.
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وكتبه / عبد الله بن محمد حسين النجمي[/center]