حكم الرشوة وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال:
لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي رواه أبو داود والترمذي وصححه .
حديث عبد الله بن عمرو حديث جيد، وله شاهدان من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي:
لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم زاد: "في الحكم". هو حديث جيد، وعند أحمد من حديث ثوبان زاد: "الرائش". الرائش: هو الوسيط الذي يجرى بين الراشي والمرتشي. هذا أيضا رواية أحمد ضعيفة، لكن المعنى يدل عليها.
ولا شك أن الرائش -وهو الوسيط بينهما- حرام، لكن هل هو ملعون كما لعن هذان؟ موضع نظر، إن ثبتت هذه الرواية فيكون داخلا، ومن طريق أحمد هي ضعيفة، ولا شك أنه ساع في أمر محرم في التقريب بينهما، مثل إنسان يعرف إنسانا له حق من الحقوق، مثل إنسان أراد أن يرتشي ويريد أن يرشي أحدا، فقال: أنا أعرف لك فلانا. وتوسط بينهما، فانظر إلى هذه الوساطة السيئة المشئومة في الأمر المحرم.
والرِّشوة، ويقال: الرَّشوة والرُّشوة مثلث مأخوذة من الرِّشا، وهو الحبل الذي يمد إلى البئر. وكأن أحدهما توصل إلى ما يريد بهذا بالرشوة، كما يتوصل بالرشاء الذي يمد إلى البئر فيستخرج الماء، والرشوة على هذا تكون من الكبائر؛ لأن ما لعن صاحبه فإنه من الكبائر.
والرشوة: هي بذل المال في إحقاق باطل، أو إبطال حق، أو طلب المال لإحقاق باطل أو طلب حق. هذه هي الرشوة، فإذا طلبت الرشوة لهذا فهي رشوة، وإن كانت بغير طلب فهي هدية، مثل: يهدي هدية لعامل من العمال، أو موظف من الموظفين، يهدى له هدية، فإنه يكون رشوة، إلا إذا كان -كما سيأتي- بينهما التهادي قبل ذلك، فلا بأس أن يستمر على ما هو عليه.
فالرشوة حرام مطلقا، لكن ذهب بعض أهل العلم -وهم جمهور العلماء- إلى أن من كان له حق من الحقوق، ولم يستطع أن يستنقذه، ومنعه مثلا من هو عنده من صاحب ولاية أو وظيفة أو عمل من الأعمال، وله الحق من مال أو وظيفة، ومنع ظلما من حقه، في هذه الحالة هل يحرم بذل المال؟ وأراد أن يستخرج حقه من عند هذا الموظف، لكنه رفض -والعياذ بالله- حتى يعطيه شيئا من المال وهو مستحقه؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس أن يدفع مالا لهذا ويستخرج حق؛ لأنه استنقاذ ما وجب له من حق، أو وظيفة هو مستحق لها، ومع ذلك لم يمكن منها وهو محتاج إليها، أو مضطر إليها، وأبي أن يعطيه إلا بشيء من المال، وهذا على الصحيح لا بأس به، خاصة مع كثرة الظلم وانتشار الفساد والشر، ومنع أصحاب الحقوق من حقوقهم.
فقد يبقى الرجل متحسرا وممنوعا من حقه، مظلوما مهضوما، ولا يجد من ينتصر له؛ لكثرة من يقع في هذه الأمور المحرمة، فلا يجد إلا من يمنحه حقه إلا بشيء من المال، نقول: إذا كان هذا الأمر كما ذكر وكما وصف، بلا مبالغة وحق من حقوقه الواجبة له، أو حق من حقوقه التي هو مستحق لها ومحتاج إليها، ولم يبذل له إلا بمال، فالصحيح أنه لا بأس أن يدفعه، ويكون حراما على الآخر، جائز في حق الدافع.
يقول: إن هذا الرجل وأمثاله ممن أعطيته مالا، يؤذي أولا، ومع ذلك لا يحمد أخيه، فهو ابتدأ بإيذائه، وانتهى بجفاء وعدم حمد وشكر لمن أعطاه، ولا شك أن هذا من سوء الخلق، وأخلق بهذا أن يكون ممن غمز في إيمانه، فقال -عليه الصلاة والسلام- ما قال، أنه يعطيه المال، ومع ذا قال: يتأبطها نارا، وهذا يدل على أن أخذه لهذا المال حرام، ومع ذلك تخلص -عليه الصلاة والسلام- من أذيته في أن أعطاه المال، حتى يريد أن يفتك منه، ولهذا لو أن إنسانا ... بعض الناس حينما ... من يسألون المال ويطلبونه يأتي ويلح، وقد تغلب على ظنك أنه كاذب، أو يتبين من القرائن أنه ليس بصادق، لا ومع ذلك يلح ويؤذي، يؤذي ويسأل.
وربما إذا أعطيته شيئا من المال قال: وأيش هذا؟ لم أتعود أن آخذ هذا، فهو يأخذ مالا حراما، ومع ذلك يكون جافيا في قوله، فلا بأس أن تعطيه هذا المال، وإن كان حراما عليه؛ لأنك تدفع شره وتدفع أذيته، مثل إنسان مؤذ بلسانه، أو شاعر يهجو الناس، أو إنسان بذيء بقوله في المجالس، أو يذكر إنسانا فأراد أن يقطع لسانه، فرد عليه: أخي، أريد أن تكف عني لسانك، وهذا ألف ريال، عشرة آلاف، كف لسانك. يجوز ذلك، أن تقطع لسانه بشيء من ... وإن كان حراما عليه؛ لأنك بذلك تقطع شره، كذلك مثلما قال -عليه الصلاة والسلام-:
يذهب يتأبطه نارا ويكون حراما عليه.
وهكذا أيضا من يدفع المال على سبيل أن يستخرج حقه، وأن يستنقي حقه، ويكون حراما على الآخذ جائز للدافع، وهذا قول جمهور أهل العلم، والواجب أن يحذر هذا ما أمكن، هذا الواجب، لكن إذا لم يتمكن مع كثرة الشح والفساد، لم يتمكن إلا بذلك، جاز له هذا، أو يقول له: لا أعطيك حقك حتى تعطيني نصفا، نصفه أو ربعه أو ما أشبه ذلك. كل هذا مع عدم القدرة جائز ولله الحمد.