ما المقصود بهذه العبارة (إن الدين يسر)؟
التيسير مقصد من مقاصد هذا الدين وصفة عامّة للشريعة، في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها. فالله بمنِه وكرمه لم يكلّف عبادَه بما يشق عليهم، ويسبب لهم الحرج والعنت، وإنما أنزل دينَه على قصد الرفق والتيسير(يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ) [البقرة:185]،( يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً) [النساء:28]،( هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِين)َالحج:78
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يبعثني معنّتاً ولا متعنِّتاً، ولكن بعثني معلّماً ميسِّراً)مسلم
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي دين الإسلام ذو يسر أو سُمِّيَ الدين يسرا مبالغة بالنسبة للأديان قبله لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم"
والتيسير في الشرع معناه:
(تطبيق الأحكام الشرعية بصورة معتدلة أي كما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تشدد يحرم الحلال، ولا تمييع يحلل الحرام)
ومن هنا نفهم أن التشدد والتنطع وتحريم الحلال هو من الغلو في الدين، وليس من الزهد، فالزهد ليس بتحريم الحلال وإضاعة المال وإنما الزهد هو زهد القلب، ففي الصحيحين { أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهم : أما أنا فأصوم لا أفطر , وقال الآخر : أما أنا فأقوم لا أنام , وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء , وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : ما بال رجال يقول أحدهم كذا , وكذا لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني} . فالغلو في الدين حرام، والغلو في العبادة حرام، فكيف بتحريم الحلال؟ وعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: (فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإذن ذلك صيام الدهر كله)، فشددت فشدد عليّ، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: (فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه) قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: (نصف الدهر)، وكان عبد الله يقول بعد ما كَبِر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري ومسلم) والغالب على أهل الغلو أنهم يحرمون الحلال ويتشددون في العبادات والمستحبات، وفي نفس الوقت يتهاونون في الكبائر كالغيبة والنميمة والعجب والكبر وهذا ما ينبغي.
وفي المقابل نجد أهل التمييع والتفريط الذين يحللون الحرام بحجة أن الدين يسر، ونجد من يتتبع فتاوى العلماء ليبحث عن زلة لعالم ورخصة لآخر، والتنقل بالفتوى بين العلماء يدل على الجهل وإتباع الهوى، ويحتجون بالحديث الذي في الصحيحين: (ما خُيّّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ولا يكملون باقي الحديث( ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه)وقد قال الحافظ في الفتح :(قوله: بين أمرين أي: من أمور الدنيا لأن أمور الدين لا إثم فيها) فليس من الدين أن نقترف الحرام لأنه أيسر، وإنما التخيير يكون في أمور الدين، وما ليس فيه إثم، فلا ينبغي أن نأخذ أول الحديث ونترك آخره(ما لم يكن إثما).
فمن ثم فإن واجب من لم يدرس العلم الشرعي، و لم يصبح من الراسخين في العلم ألا يجتهد، فالاجتهاد هذا للعلماء، أما باقي الناس فهم يجتهدون فقط في اختيار أوثق شيخ ويقلدونه ويسيرون على مذهبه، فمذهب العامي مذهب مفتيه، أما أن يطوفوا بالفتوى على المشايخ ويتتبعوا رخص العلماء، فقد قيل من تتبع رخص العلماء تزندق، لأن من لم يكن لديه أدوات الترجيح فعلى أي أساس سيرجح بين أقوال العلماء؟ سيحتار ويظل يسأل وفي النهاية يرجح على حسب هواه، وكثيرا ما نسمع من هؤلاء الذين يتتبعون الرخص (إن الدين يسر) قال الحافظ السيوطي في شرح هذا الحديث:( إن هذا الدين يسر، سماه يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) فمعنى أن الدين يسر أن الشريعة في ذاتها سهلة ميسرة، مفهومة الدلالة، صالحة لكل زمان ومكان، وليس معناه أن ننتقي من أقوال العلماء ما يتماشى مع هوانا، وليس معناه أن يبحث المفتي عن فتوى سهلة ميسرة للمستفتي، ويقول ابن القيم رحمه الله :(لا يجوز للمفتي تتبع الحيلة المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه, فإن تتبع ذلك فسق, وحَرُم استفتاؤه) وليس اليسر في الدين كما يفعل من يسمون أنفسهم ( الدعاة المودرن) وأصحاب المناهج العقلانية من تمييع الدين وتحليل الحرام والفتاوى العصرية التي تواكب حركة التقدم وتساير الجميع ولا تصطدم مع الغرب وتتماشى مع العلمانية.
و من ثم نستنتج أن مفهوم (إن الدين يسر) أن الدين يسر في ذاته في العقيدة والشريعة والأحكام والمعاملات، في كافة الأصول والفروع، وليس معناه الغلو في الدين والتنطع، وليس معناه التساهل والتمييع، وإنما الوسطية والاعتدال وموافقة الشرع، وإتباع الدليل.
ومظاهر اليسر في الشريعة أكثر من أن تحصى كأكل الميتة والدم وجواز شرب الخمر عند الضرورة، وكفطر المريض والمسافر و كذلك الحامل والمرضع عند الضرورة، و إسقاط الصلاة عن الحائض و النفساء، وإباحة المسح على الخفين، و جواز القصر والجمع للمسافر وغير ذلك مما هو معلوم، لذلك يجب أن نعلم أن ديننا جاء برفع الحرج فهو دين يسر، أما تحليل الحرام وتحريم الحلال فهو لمن بيده الأمر والحكم، بيد الله وحده، وقد مات النبي وانتهى نزول الوحي وكمل الدين ورضاه الله لنا، ومن ثم فإن من فعل ذلك، فقد جعل نفسه مشرعا وأساء الأدب مع الله. .