مرَّت الأيام الماضية بهدوء في ميدان التحرير بعد موقعة الجمال والخيول التي شهدها المتظاهرون الأسبوع الماضي, إلا أن المدافعين عن الميدان كانوا على أهُبَّة الاستعداد في حال عودة أعدائهم من اللصوص المحترفين التابعين للنظام الحاكم في مصر, فتكدَّست أكوام الحجارة، وتَمَّ ترتيبها في صفوف طويلة متقنة وأنيقة، بدت أدوات الرجال الذين يسيطرون على خط الدفاع الأخير أمام الحواجز المعدنيَّة وطوق دبابات الجيش تشبه إلى حدٍّ كبير الفلسطينيين, وفور أن ينفخ أحد الشباب المضمدة يده من الجراح في الصافرة, يأخذ الرجال مواقعهم محاذاة بصفوف الحجارة المكدَّسة— استعدادًا لهجوم محتمل من جانب المسلَّحين الموالين لنظام الرئيس حسني مبارك.
هذا هو الخط الأمامي على أطراف ميدان التحرير, حيث تجري معارك بالعصي والحجارة بين المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية وإسقاط مبارك والموالين له بصورة متقطعة, أما المعركة الواسعة التي تدور رحاها لكسب القلوب والعقول فتتواجد بالخارج, فمنذ وقوع الاحتجاجات والمواجهات في 25 يناير, يتهم جميع الأطراف, من المسئولين الحكوميين والموالين وحتى المتظاهرين, الآخر باستخدام حيل استراتيجيَّة خادعة للفوز بالساحة, وبالفعل بعد انتهاء التراشق بالحجارة واستخدام العصي بدأت حرب الكلمات والألفاظ.
في مقدمة هذه الكلمات أتت "الأب", الكلمة التي أثارت غيظ وحنق المتظاهرين لأن مبارك صوَّر نفسه دومًا بأنه والد للشعب, بيد أن المتظاهرين ألقوا عليه باللوم لانعدام الأمن المفاجئ الذي حلَّ بالعاصمة في مساء يوم الجمعة معتبرينه بمثابة تحذير من الأب الذي يزيل حمايته, حيث يقول محمود عواد المرشد السياحي في المتحف المصري: "كان ذلك الاختبار الأول، إنها طريقة مبارك لتهديد الشعب المصري, أنه لا يمكنكم حماية أنفسكم وأنتم بحاجة لمبارك أبيكم, إلا أن المصريين أصبحوا أكثر غضبًا", مضيفًا: "أولا, يخاطبنا على أنه أب لنا, ثم نذهب إلى النوم ليلا فيقوم بالهجوم علينا", هذا المعنى الأبوي, الذي طالما استخدمه الرئيس بشكلٍ عاطفي أثار غضب المتظاهرين, فقد أصبح مبارك الأب عدوًا مخادعًا, أو "كاذبًا" كما يقول البعض في ميدان التحرير.
وفي الوقت ذاته, زجَّ بكلمة "إسرائيل" على نحوٍ متزايد, حيث يرى المحتجون أن مبارك ونائبه الجديد مدير المخابرات السابق اللواء عمر سليمان, يمثلون ضمانًا للولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل في المنطقة, فقد ساعدت مصر في عهد مبارك في حصار غزة, وقامت بعقد صفقات تجارية مع الدولة التي تعتبر عدوًّا رئيسيًّا لمصر, لذلك فقد تدلت الدمى المحشوة على أعمدة الإنارة في ميدان التحرير, ممثلة الرئيس مبارك, وقد رسم عليها نجمة داود, وأخذ مئات الآلاف يرددون بعد ظهر يوم الجمعة تحت هذه الدمى: "كلموه بالعبري، ما بيفهمش عربي".
بيد أن مبارك وأنصاره استخدموا أيضًا تُهمة "إسرائيل" ضد المحتجين, حيث أن الدولة اليهودية هي الدولة الأجنبية الوحيدة التي يستخدمها النظام تقريبًا في أعقاب أزمته, فكلمة "أجنبي" أصبحت بمثابة خطر على الموالين للنظام, وقد لعبت وسائل الإعلام التابعة للحكومة بقوَّة على كارت العملاء الأجانب والتدخل الخارجي، وذلك باتهام الأجانب بتشجيع الاضطرابات في ميدان التحرير, وكان لهذه الرسالة الأثر البالغ في نفوس كثير من المصريين, وهذا ما نقله التليفزيون الرسمي لرجل يتحدث في هاتفه المحمول وهو يسير بعيدًا عن نقطة تفتيش يوم الأربعاء, قبل وقتٍ قصير من الهجوم على الميدان قائلا: "لا أحد مصري في التحرير إنهم جميعًا أجانب".
وقد كان، فقد طارد الموالون لمبارك الصحفيين الأجانب وهاجموهم في الأيام الأخيرة, وساعدوا في القبض عليهم وتسليمهم للسلطات, وقد تعرضت زميلتي رانيا أبو زيد لهذا عندما رآها بعض الشبان الصغار, وهي تجلس في سيارة أجرة, صارخين في وجهها "أجنبية, أجنبية" اقتناعًا منهم بأنهم قد عثروا على أحد الأعداء الأسطوريين, وتلك تجربة مشتركة يعاني منها الصحفيون غير المصريين الذي يقومون بتغطية الاحتجاجات ليلة الخميس, ذكر أحد المسعفين أنه رأى صحفيًّا سويسريًّا يهرع إلى المستشفى بعدما طاردوه بعض الغوغاء الذين اتَّهموه بأنه إسرائيلي وأخذوه يضربونه, كما استقال اثنين من الصحفيين- على الأقل- يعملون في تليفزيون النيل الذي تديره الدولة منذ بدء الاحتجاجات: وقد شبهت إحداهن البقاء في الوظيفة بـ "التحريض على العنف".
غير ذلك هناك حربٌ من القيل والقال والمضاربة, وترويج الإشاعات بين طرفي الأزمة في مصر: الجانب الذي يعتصم في ميدان التحرير ولا يمتلك سوى صوته, والجانب الآخر حيث يرتدي أفراد الشرطة ملابس مدنيَّة، ويُلمح النظام على نطاق واسع بأن جماعة الإخوان المسلمين المحظورة كانت لها يدٌ في الاضطرابات، أما أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فلم ينكروا هذا، بل افترضوا أن هذه الادِّعاءات تعكس ضعف النظام, حيث يقول خالد طنطاوي, الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين: "لقد صار مبارك محاطًا تمامًا الآن, لا أحد يؤيده, حتى عمر سليمان لم يعد يدعمه كثيرًا".
كذلك أصبحت عبارة "حياد" الجيش نقطة مثيرة للخلاف, حيث يقول محمود مرشد في المتحف: "كان من المفترض أن [تسيير] الجيش ليظهر [مبارك] أمام العالم بأنه رئيس ديمقراطي متحضر", مضيفًا "لكن الجيش المصري ينقسم في الوقت الحالي بين مؤيدين للشعب وداعمين لنظام مبارك, فيما عدا القيادة, فإن الشباب الذين تربَّوْا في عصر مبارك, تحدثت مع بعض منهم, فقالوا: "إذا قتل أي شخص منكم هنا, فسأحارب حتى الموت", لكن "حياديَّة" الجيش حتى الآن هي وسيلة لبسط النظام سيطرته على الشوارع.
بطبيعة الحال الكلمات ليست حقائق, ولكنها قد تكون أكثر فعاليَّة في كسب القلوب والعقول من العصي والحجارة وتكسير العظام, إلا أن هؤلاء المعتصمين في الميدان لديهم من النضج واليقظة لمجابهة الكلمات الخطيرة, وقد يبدو أي شخص غير ضار لكنه قد يكون عدوًّا, وهذا ما يعتقده إسلام أشرف (24 عامًا) أحد المتظاهرين, بأن هناك متسللين وجواسيس من حولنا, حيث يقول: "هؤلاء الأشخاص يرتدون مثلنا, لكنني على يقين أنه تَمَّ دفعهم من الحزب الحاكم".