أتذكرين حين قلتِ لي: "ليس العلم بالكلام وإنَّما بالممارسة والتعلم"؟
لم أنْس كلماتك يومًا يا أمي.
تعلَّمت الكثير مُذ فطمْتِني وحتَّى الآن، ومازلت يا أمّي أتعلَّم.
وأوَّل ما تعلمْتُه هو أنَّك القلب الوحيد الآمِن الَّذي لا تغيِّرُه الحياة.
وأنَّ الحياة دائرة يا أمّي لا تقِف عن الدَّوران، تَحمِلُنا في كلّ اتِّجاه، وتُلْقِي بنا في كلِّ ناحية.
هنا دوحٌ مثمِر وروْض مزْهر، وهناك بيت مقْفِر وجوارَه زورق مبحر، و.... وهكذا ..
ليل أدهم يا أمّي وصبح مسفر.
علمت لماذا كنتِ تَمنعينَنا من الابتِعاد عنْك،
وتصرِّين أن نتشبَّث بتلابيبِك عندما نسير في الطرق،
خشيتِ أن نرَى في الحياة ما رأيتِ، أردتِ أن تُغْلِقي أعيُنَنا عنْه فلا نراه.
ولكنَّه مَحتوم يا أمّي، ولا بدَّ أن يحصل،
ولا ينفع منه الحذَر، أرأيت يا أمّي حذرًا يرُدُّ القدر؟
عجبًا يا أمّي ما رأيناه في الحياة!
أناس يتلاشَون كالضَّباب إذا بعثرتْه أنامل الشَّمس،
فقط عند احتياجِك لهم، يفرُّون فرارهم من المجذوم،
يخشَون منه العدوى،
فعلمت مقصدَ القائل: "مَا أَكْثَرَ الإِخْوَانَ حينَ تعُدُّهم!"،
وعذرتُه يا أمي؛ فقد تلاشَوا حقًّا في النَّائبات.
رأيتُ يا أمِّي مَن لا يَمنعُه الحياءُ مِن إغلاق بابِه في وجهِك
إن قُدِر عليك رزقك.
وقد كانوا في سَعة العيش كالذباب على الحلوى،
وتساءلت: هل يأمنون على أنفسهم البلوى؟!
عرفت - يا أمي - أنَّ الحِلم بالتحلُّم،
وتذكَّرت قولَك: "هوّنها وتهون"،
علمتُ أنَّ كلَّ ما في الحياة يهون إذا هان في أعيُننا،
وكلّ عظيم لا يعظُم إلاَّ بإحساسنا نَحن.
علمتُ أنَّ عظامَ الأمور تذوبُ في أبسط التفاهات،
وأنَّ ما يكون أوَّل المبادئ اليوم يُمكن أن يَكون أدْنى السَّخافات غدًا.
علمتُ أنَّ القوَّة أمرٌ في القلوب نَختارُه بإرادتِنا
إذا قرَّرنا فقط التَّخلِّي عن ضعْفِنا، وأنَّه لا يَمنعُنا
من القوَّة إلاَّ الخوف والجبن، علِمت أنِّي متى تخلَّيت عنْهما واتتْني القوَّة.
ثمَّ وجدت أنَّه لا أمان من الخوْف ولا مهرب
إلاَّ بالقرب من مصْدر القوَّة، ولم أجد - يا أمّي -
أقوى من العزيز الجبَّار ذي القوَّة، فسلكتُ الطريق لأقِف ببابه وألتزم أعتابَه،
فوجدتُه - يا أمي - حُفَّ بالمكاره،
ولكن له لذَّة تُجبرنا على الاستمرار فيه رغْم الفتن.
فعلمتُ - يا أمي - أنه: "خيرٌ لنفسي عِصْيانُها".
علمتُ أنَّ الأمور لا تكون دائمًا في حقائقها كما تبدو في الظَّاهر،
وما كلُّ ما يلمع ذهبًا؛ بل وجدت مَن تلمع ظواهرُهم وتنطوي
سرائرُهم على قلوب كالفحم في سوادها، متى لامسْناها تفحَّمت
أيدينا بحمَمِها التي تلطِّخ بياض الرُّوح، وينكت فيها نكتة سوداء لا تزول.
عجبتُ لوجوهٍ - يا أمي - تبتسم وقد خُلعت عنها الفضيلة،
واعتلَتْها الرَّذيلة، فلم تُبالِ بسوادها بعد ابيِضاض،
ولم تأْس على ما فاتَها من شرف وكرامة، ولم يؤْذِها ذاك الانحطاط!
عجبتُ - يا أمي - أن يقول الفاروق: "كلُّ النَّاس أعلمُ من عمر"!
ثمَّ نجِد أناسًا يتشدَّقون ويتبجَّحون بالعِلم،
وبما يحفظون من مفرداتٍ كثيرات ربَّما لا يعرِفون معانيَها،
يصعِّرون وجوهَهم وخدودَهم، ويُشيحون بأيديهم،
ويمشون في الأرْض مرحًا وتعاليًا،
مع أنَّ الله لا يحب كلَّ مختال فخور،
وعجبتُ لمن نسُوا مع العلم لغَتَهم، فاحتاجوا إلى مَن يترجِمُها لهم!
لو علموا العِلْم الحقَّ، لكانوا أكثر النَّاس تواضعًا
- كما كان عمر - ولكانوا أكثر العباد خشية؛
كما قال ربُّهم: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾[1]
ولما ازدادوا غرورًا.
أتصدِّقين - يا أمِّي - أنِّي أحنُّ أحيانًا إلى الجهالة
، فأقول: ليْتَنا ما عرفنا كثيرًا من المفردات، ليتنا ما فهمنا كثيرًا من الكلِمات؟!
لما عرفْنا معنى الخديعة والقطيعة وكلمات أخرى فظيعة،
كالإرْهاب والاغتِصاب وكلِمات السِّباب،
ليْتَنا ما عرفنا الذَّهاب والغياب، ليْتَنا بقِينا حولَك - يا أمي - نتدثَّرُ بالثياب!
عجبًا - يا أمي - كيف أنَّ اختلاف حرف واحد يقْلب الكثير
من المعاني والكثيرَ من المشاعِر أيضًا؟!
فرق بين اللُّؤم واللَّوم، وشتَّان بين العمار والدَّمار،
وبَوْنٌ بين الحق والحقد، واللهو واللَّهب!
أتعلمين؟ ربَّما كان الجهل بالأشياء نعمة،
وإن كان العلم نورًا يا أمي، لكنَّ النور المفاجئ يؤْذِي تلك العيون الَّتي كانت نائِمة لا تدْري شيئًا، وربَّما يُعْمِيها.
كنَّا حولك كالفراخ الصِّغار، نهْرع إليْك كلَّما سمعنا صوتا غريبًا؛
لكنَّنا خرجنا يا أمّي من القُنّ فهو لم يعد يكْفينا، ولَم تعد حتَّى جلودنا تكفينا.
فانسلخْنا منها إلى جلودٍ لم تُخلَق لنا فخَلِقَت
نفوسُنا ومُسخت هويَّاتنا، ولم نعُد نرى حولنا سوى جرذان
تتسوَّر الجدْران بحثًا عن المزيد، تحقنه في الوريد وتتشبَّع به
فلا يكْفيها فتستفيض، تبحث - يا أمّي - نهمة مسعورة عن كل لذَّة،
مطروحة كانت أو مصرورة.
غريب - يا أمِّي - تعلُّق النَّاس بدنيا يأْلَمون فيها،
ومع ذاك يأْملون منها أن تدوم.
واسعة فيها آفاقهم، وبعيدة آمالهم، وجامح خيالهم،
عجبًا يا أمي!
لعب ولهو وزينة وتفاخُر، وتكاثر وأموال وأولاد، ثم يُضْحِي هذا كلّه حطامًا!
عجبًا لِمن يلهث خلف هذا الحطام
، ويشد له الخِطام، ويزاحم عليه كلَّ الزِّحام بالمناكب والأقدام!
أيقنتُ - يا أمِّي - أنَّه من الغباء التعلُّق بالأشياء وترْك ربِّ السَّماء.
عجبت لأرْواح جنَّدت نفسها لخدمة الغير دون سأم أو تعب،
تسْعَى إلى ذلك سعيًا مجهدًا، وكأنَّها تجِدُ في ذلك من السَّعادة
عالمًا آخَر ودُنيا غير دُنيانا التي نعيش بها، وكأنَّها - يا أمّي -
أرْواح غير أرْواحنا، تتنفَّس غير ما نتنفَّس،
وتحسُّ غيرَ ما نحس، وتتلذَّذ بغير ما يلذُّ لنا.
أرْواح وجدت السعادة في العطاء وتخلَّصت من تعلُّقها بالأشياء،
أرْواح وقاها الله شحَّ نفسِها فوهبَتْ، ووجدَتْ،
وجدَت اليقين بأنَّ كلَّ ما في الحياة هو ملك للَّذي خلقها،
وإليْه يومًا ستعود كلُّ الأشياء، فاستراحتْ وتراخت للقدَر، خيرِه وشرِّه.
ووجدتُ أرواحًا أُخرى لو ملكت منْع الهواء عن غيرها لفعلت،
أرواحٌ تُزاحم النَّمل على قُوتِه، تأكل الأخضر واليابس دون شبع، لا تغلق للبلع فاهًا، ولا تقبض عن الأخذ يدًا.
عجبًا يا أمّي!
والأعجب كيف يجتمعان على مائدة واحدة؟!
أفواه لا تغلق وأخرى لا تفتح،
يد تعطي باسمةً فتفرح، ويد تنهب غاضبة فتفْرح.
رأيتُ يا أمي مَن يتسوَّل الماء على الأبواب،
ومَن يمنع الماء عن العطْشى ويُريقه في التراب،
ورأيتُ مَن لا يشاركه طعامَه سوى الذُّباب، ومنِ امتلأت موائدُه بما لذَّ وطاب.
عجبًا يا أمي! كيف يساوم الغنيُّ - وقد وجد كلَّ شيءٍ -
الفقيرَ على راحة فكرِه وهدوء بالِه، وهو لا يملك سواها، ولكنَّه لا يستبدلها بكلِّ مال الغني؟!
رأيتُ عزَّة النَّفس مدوَّنة في أعين المتعفِّفين عن السؤال؛ بل حتَّى عن قبول العطيَّة.
رأيتُ مَن أخرج الجوعُ ضلوعَه من مواضعِها، ويأْبَى أن يُلقَى له الطَّعام كما تُلْقَى العظام للكلاب.
رأيتُ عجبًا عجابًا يا أمي.
رأيت أناسًا لا يمنعهم التّرحال ولا قفْر الرمال
ولا تزاحُم الأشغال عن تعْفير جباهَهُم سُجَّدًا، على وقت الأذان، خضوعًا للرَّحمن، ورأيتُ - يا أمي - مَن يجمع الخَمْس،
ومَن لا يدري هل صلَّى بالأمْس، ومن يترفَّع عن البكاء خشيةً ورهبةً؛ لأنَّ البكاء ليس من شِيَم الأبطال!
عجبًا يا أمِّي عجابًا، كيف نسيتْ ذاتُ الحجاب حجابَها معلَّقًا وراء الباب، وتجاوزتْ دونه الأعتاب، وخرجت تطوفُ بالشَّوارع
دون وازع، تُجادل وتنازع، وتُطالب بالحقوق ونسِيت أعظم الحقوق معلَّقة خلف الأبواب؟!
ليْس فقط الحجاب يا أمّي، ليس فقط الحجاب، بل الأولاد والزَّوج والأهْل والدِّين، وقبلَهم ربّ الأرْباب، نَسِيتْ يا أمّي، وهل يؤاخَذ المرْء بالنِّسيان؟!
لكنَّها حتمًا ستذْكُر يوم تقف للديَّان، لا مال ولا أهْلَ ولا خلاَّن، ستذْكُر كلَّ الحقوق الَّتي أسقطتْ أوراقها من حقيبتِها.
ورأيتُ - يا أمي - مَن انتُزِعَ الحجاب عن وجهها انتزاعًا، فأخفت وجهَها بيديْها وبكت بالتياع، وتذكَّرتُ مَنْ صرخت: وامعتصماه! لكن لا عاصم اليوم - يا أمِّي - إلاَّ الله.
عجبتُ لِمن تقتلُه الوحدة رغْم كلِّ الصَّخب من حوله والضَّجيج، عجبتُ لِمن لم يبحث عن الأُنس حيث يوجد، ومضى يَهيم على وجهِه باحثًا عنْه حتَّى إذا أعْياه التَّعب رفع طرفَه للسَّماء فوجده هناك، وعلم أنَّه "ليس وحيدا أبدًا من كان مع الله".
فتاب وأناب، ودعاه: "إني أسألك الأنس بقربك".
يا ساتر الأسرار استُرني بالليل والنهار.
عجبتُ لنفوسٍ تَضيق عن احتِمال سرِّها فتبوح به ثمَّ تغْضب مِن انتشاره، وأُخرى يستُرُها الله ثمَّ تفضح أمرَها وتجاهر به، ولنفوس أُخرى أشغلها في الحياة البحثُ عن أسرار النَّاس، وأخرى تبحث في أسرار الحياة.
تتأمَّل، وتتفكَّر، وتفكِّر، وفي نهاية الأمر تنكصُ على أعقابِها وتتردَّى إلى مهاوي الجحود، عجبًا يا أمي!
عجبٌ يا أمّي حال هذه الحياة.
تناقُضات وتباينات واختلافات، ونزاعات وخلافات، والتِزامات وارتِباطات ومسؤوليَّات، ومشْكِلات وأزمات، واختِناقات وبعض انفِراجات.
إنَّه الكَبَد يا أمّي.
وبعده، يأْتي الممات.
نسأل الله الثبات، يا أمي. .. نسأل الله الثبات.