قال الله سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ][الأنفال: 24].
ما أعظم المِنة التي امتنها الله تعالى على عباده، عندما أكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ][المائدة: 3].
* وما أكرم هذا الإنسان، عندما يفيء إلى الله تعالى، ويستجيب لدعوته ويبصر أمامه الطريق المستقيم، ليقوم بدوره في هذه الحياة، ويدرك معنى وجوده فيها ! وعندئذ تتحقق له الحياة الحقيقية، الحياة الكريمة الطيبة.
فالذين يستجيبون لله وللرسول ظاهراً باطناً هم الأحياء وإن ماتوا، وهم الأغنياء وإن قلَّت ذات أيديهم، وهم الأعزة وإن قلَّ الأهل والعشيرة.. غيرهم هم الأموات حقيقةً وإن كانوا أحياء الأبدان، يَسْعَوْنَ بين الناس جيئةً وذُهوباً، [أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ومَا يَشْعُرُونَ][النحل:21]، وهم الفقراء، ولو كان الذهب النُّضار يملأ خزائنهم، ويَعْمُر جيوبهم، وهم الذين تغشاهم الذلة، ولو كانوا يمتون بالنسب، ويحتمون إلى أعرق القبائل.
* ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الله سبحانه وتعالى، ودعوة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الذي يعاشرها ويبلّغها عن ربه تبارك وتعالى، فإن كل ما دعا إليه فيه الحياة، ومن فاته جزء من الدعوة فاته جزء، من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه وتعالى يوجِّه الدعوة الكريمة للمؤمنين، ويستجيش فيهم عاطفة الإيمان، ويخاطبهم بهذه الصفة: صفة الإيمان، ويذكّرهم بمقتضى هذا الذي آمنوا به، فيناديهم بصفتهم مؤمنين ليكون ذلك حاملاً لهم على المبادرة إلى إجابة الدعوة بعناية واستعداد، وقوة وعزيمة.
وهذا هو شأن المؤمن: إنه يتلقى أوامر الله ودعوته بقوة: [يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ][مريم:12]، [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ][الاًعراف:171] فإن لهذه الدعوة أعباءها، وإن لهذه المهمة تكاليفها: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً][المزمل:5].
ولن يحمل هذه الدعوة ويصمد لها ويتغلب على عقبات طريقها، ويصبر أجمل الصبر عليها، ولن يعيش لها ويتحرك في دائرتها حركة المؤمن بها الواعي لتكاليفها، إلا الرجال الأقوياء الأشداء، وعندئذ تكون الأمة التي تنجب هؤلاء المؤمنين الأفذاذ، والتي تأخذ هذا الكتاب بقوة، وتلتزم بالتكاليف.. أمةً ذات رسالة سامية وهدف عالٍ، تكافح وتجاهد من أجلهما: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ][الحج:143]، وتكون هي الأمة القائدة الرائدة، التي أناط الله تعالى بها مهمة الشهادة على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين الربانية والقيم الثابتة.. هي الأمة العدل الوسط، كما وصفها الله سبحانه وتعالى الذي حدد لها هذه الوظيفة فقال: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً][البقرة:143].
* وهذه الدعوة، التي يوجهها الله تعالى لعباده المؤمنين، دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة ولكنها ليست أيَّ حياة، وإنما هي الحياة الكريمة العزيزة، الحياة الحقيقية الكاملة، التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، فإن هذه المخلوقات تحيا حياة بهيمية، يتحرك فيها المخلوق بدافع من بطنه أو فرجه، فهو لا يعرف له غاية نبيلة يسعى إليها، ولا رسالة يحيا من أجلها، ويكافح في سبيلها، فحسبُه دريهمات يملأ بها جيبه، أو لقيمات تملأ معدته الفارغة، وثياب تكسو جسده العاري، وليكن بعد ذلك ما يكون، فهو لا يسعى لأكثر من هذا ! !.
إنها حياة القلب والعقل، بالعقيدة التي تعمر القلب، فتملأ كيان الإنسان نوراً وهداية: [أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ][الأنعام:122]. [اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ][البقرة:257].
وهي العقيدة التي تهدي العقل، وتضبط حركته وعمله، فتحميه من التيه والضياع، وتحفظ عليه جهده وطاقته من التبدد، عندما ترسم له منهج الفكر السليم، وتحدد المجال الذي يمكن أن يرتاده العقل ويستطيع أن يعمل فيه، ثم تحجب عنه ما لا يستطيع أن يفكر فيه أو أن يدركه، وعندئذ نتجمع الطاقة العقلية لتعمل في مجالها المحدد فتستطيع أن تحقق الكثير من الإنجازات العظيمة في نطاق السنن الربانية في الكون والحياة الاجتماعية والحضارية وفي أحداث التاريخ وأيام الله.
وإنها حياة للروح والجسد، دون انفصام بينهما ولا صراع، فما كان تعذيب الجسد-في شريعة الله - سبيلاً لرقي الروح وتزكيتها، ما كانت العناية بالروح عاملاً يدفع المؤمن إلى ترك ما أحل الله للإنسان وتحريمه، ولا حرمانه من حق الحياة الطيبة والزينة التي أخرجها الله لعباده: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ][الأعراف:32] [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ][القصص:77].
وهذا ما علمه النبي؛ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وقذفه في قلوبهم وعقولهم، فكان درساً وتعليماً لا ينسى؛ فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً؛ وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر؛ وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؛ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سُنتى فليس مني".
ولن تتحقق هذه الحياة إلا بوحي الله سبحانه وتعالى: [وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ][الشورى: 52-53]. فقد سمى الله تعالى ما أنزل على رسوله روحاً؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، كما سمّاه، أيضاً، نوراً، لتوقف الهداية عليه، فقال الله، سبحانه وتعالى [يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ]المؤمن: 151]، كما سمّاه أيضاً شفاءً، فقال: [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفَاءٌ][فصلت:44].
وليس غريباً، بعد هذا، أن يجعل النبي، -صلى الله عليه وسلم- هذا الإيمان والعقيدة التي جاء بها كالمطر الذي ينزل على الأرض الهامدة فيحييها: عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً، فكان منها نَقِيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قِيعَانٌ لا تُمسك ماء، ولا تُنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّمَ. ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به" [رواه البخاري ومسلم].
فهي إذن دعوة إلى العقيدة والإسلام والإيمان، فقد أحياهم الله تعالى بالإسلام والإيمان بعد موتهم بالكفر. وهي دعوة إلى الحق والقوة، الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، إذ لم يخلقهما الله تعالى إلا بالحق: [ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ][الحجر:85]، والكتاب الذي أنزله الله تعالى على خاتم أنبيائه ورسله - صلى الله عليه وسلم- هو الحق: [والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الحَقُّ][فاطر:31]، وقد أنزله الله تعالى بالحق: [نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ][آل عمران:3].
والشريعة التي أنزلها الله تعالى على رسوله هي حق وعدل، أكملها الله تعالى وبثها في كافة الخلق: [هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ][الصف:9]، وما أرسل الله تعالى رسله ولا أنزل كتبه إلا ليقوم الناس بالحق والقسط بين الناس: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ][الحديد:25].
* وإذا كان الحق لابد له من قوة تحميه وتزيح العقبات من طريق حمله للناس وإبلاغه لهم، على حد قول الفاروق عمر، رضي الله عنه: إنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له.. فإن هذه الدعوة إلى الحياة، هي دعوة إلى القوة والجهاد الذي أعزَّ الله تعالى به هذه الأمة بعد ذُل، وقوّاها من بعد ضعف، فقد حُملت راية الجهاد في سبيل الله، لتقرير ألوهية الله تعالى في الأرض، لينعم البشر بدين الله، سبحانه وتعالى فيتحرروا في كل عبودية لغير الله، إذ هم عبيد لله تعالى وحده، وعندئذ تكتب لهم الحرية الحقيقية، والعزة الكاملة، فالجهاد هو طريق العزة والكرامة للأمة، هو طريق الحياة الحقيقية.
وحتى عندما يموت المجاهدون ويستشهدون في سبيل هذه الدعوة، لن يكونوا عند الله تعالى إلا في عداد الأحياء، ولو كانوا في قبورهم، ولهم من الرزق الطيب عند الله ما لا يقاس به رزق الدنيا كلها، فهم الذين استجابوا لله والرسول: [ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ وأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ، الَذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ][آل عمران:169-172].
ولقد كان المسلمون يعيشون هذه الحقيقة بحسبِّهم وشعورهم المرهف، فالجهاد عندهم هو الحياة الحقيقية، والأمثلة علي ذلك من الواقع التاريخي للمسلمين تعزُّ على الحصر؛ فهذا هو الفاروق عمر، رض الله عنه، يرى غزو الروم بالشام ودعوة الصدِّيق رضي الله عنه، إلى الجهاد دعوة للحياة الحقيقية الكريمة: فقد جمع أبو بكر، رضي الله عنه مستشاريه فاجتمعوا لديه، وكان مما قاله لهم: وقد أردت أن أستنفركم إلى الروم بالشام، ليؤيَّد الله المسلمين، ويجعل الله كلمته العليا، مع أن للمسلمين في ذلك الحظَّ الوافر، فمن هلك هلك شهيداً، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش عاش مدافعاً عن الدين مستوجباً على الله، عز وجل، ثواب المجاهدين.. فتكلم كل منهم؛ عمر وعبد الرحمن بن عوف.. وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد ابن زيد والحاضرون.. واتفقوا مع أبي بكر رضي الله عنه على مبدأ فتح الشام.
وانفض الاجتماع، وتام أبو بكر رضي الله عنه إلى الناس، فحمد الله بما هو أهله، ثم حثَّهم على الجهاد.. وسكت الناس، فما أجابه أحدٌ هيبة لغزو الروم لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم.
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا معشر المسالمين مالكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟.. أما إنه لو كان عَرضاً قريباً وسفراً قاصداً لابتدرتموه! [الطريق إلى دمشق 182]. وهكذا كانت كلمة ابن الخطاب تخرج من مشكاة قوله تعالي: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ].
* ثم هي الحياة الحقيقية في الجنة فالجنة هي دار الحيوان، هي الدار التي تفيض بالحياة الحقيقية والحيوية، وفيها يتحدد مصير الإنسان الأبدي، بعد أن ينتقل من هذه الحياة الدنيا، فالدار الآخرة هي المتاع الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء ولا يرضى به بديلاً، ولا يبغي عنه حولاً، ولذلك ينبغي الاستعداد والتأهُّب لتلك النهاية التي يصير إليها المرء، وعندئذ تنفتح أمامه آفاق سامية، وآماد بعيدة، ويرتفع إلى مستوى لائق بكرامته وإيمانه: [ومَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ][العنكبوت:64].
وأما الذين يرفضون الاستجابة لله والرسول فإنهم يرفضون الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان، فليس لهم إلا الدُّون ومصيرهم الهلاك، ومآلهم الدمار والبوار: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبِئْسَ القَرَارُ][إبراهيم:28-29].
وما أعظم خسارة أولئك الذين آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية الدائمة! وما أعظم ضلال أولئك الذين حصروا الوجود في هذا الذي تقع عليه حواسُّهم قريباً في الدنيا، ويحسبون أن وجودهم محصور فيها فلا يعملون لغيرها: خُلِق النّاسُ للبقاءِ فضلِّت أمّةٌ يحسبونهم للنَّفاد إنما يُنقلون من دار أعما ٍل إلى دار شقوة أو رشاد.
* وكل ما ألمحنا إليه من معاني الحياة في هذه الآية الكريمة من الإيمان أو الحق أو الجهاد أو الجنة في الدار الآخرة.. كل هذه المعاني مرادة ومقصودة، ولا اختلاف بينها، وكلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ظاهراً وباطناً، وما يظهر فيها من اختلاف إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضادّ.
يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله: (والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة) [الفوائد 116].
وبعد، يا أخي المسلم:
فهل تستجيب لهذه الدعوة الكريمة التي وجَّهها إليك رب العزة، جل جلاله؛ لتظفر بهذه الحياة الكريمة التي ألمحنا إلى شيء مما تعنيه، فتكون بسلوكك واستجابتك هذه مَعْلَماً من معالم الطريق.. ؟ وإذا وُجِّهت إليك الدعوة ثانية، فهل تستجيب لها؟.
إنك لست بالخيار.. إن أردت أن تكون مؤمناً.. فإما إيمان.. أو لا إيمان.. إما استجابة.. وإما إعراض.. ولن يكون مؤمناً ذاك الذي يُعرض عن دعوة الله، ولا يستجيب لها، أو يجعلها دبر أذنيه، فإن الاستجابة لله وللرسول، - صلى الله عليه وسلم-، هي المحكُّ الحقيقي والمظهر العملي للإيمان: [إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ][النور:51]. [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ولا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ولِياً ولا نَصِيراً، ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيراً][النساء:123-124].
والمؤمن يستجيب لنداء الإيمان من فوره: [رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ ][آل عمران: 192 – 193]؛ ولذلك قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: (إذا سمعت الله تعالى يقول "يا أيها الذين آمنوا" فأرْعِها سمعك، فإنه إما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌ تنهى عنه).