ملاحظة قبل أن تقرأ: كُتب هذا المقال في أوانه وإبانه، وهجمت الأحداث والثورات المتتابعة، فكانت تدفع هذا المقال إلى الوراء، وربما يظن أنه فات وقته، لكن العبرة لا يفوت وقتها..
لشد ما تتشابه الأيام حتى ليقال: التاريخ يعيد نفسه، ويقال: ما أشبه الليلة بالبارحة والغادية بالرائحة أو السانحة أو السارحة.
وتختلف الظروف والتفصيلات حتى ليقال: إن التاريخ لا يعيد نفسه.. وإنك لا تضع رجلك في النهر مرتين!
وفي مثل هذه الأيام وقع العدوان الهمجي الوحشي الإرهابي الصهيوني اليهودي على قطاع العزة.. غزة. وسماها الشباب المؤمن: معركة الفرقان، ولم يخيب الله أملهم ورجاءهم بوجهه الكريم. فكانت النتيجة عزة وفخاراً وانتصاراً.. وكانت فرقاناً، إذ دحر الله بصمود المؤمنين، ودعمه المبين، دحر جموع المجرمين القتلة السفاحين، فعادوا خائبين خاسئين. فما وجه التشابه وما أوجه المفارقة بين الموقعتين؟
فأما أولاً فهذه وتلك مواجهة بين حق ناشئ وباطل معتق قوي متجذر مدجج، كل البيئة المحيطة متفقة معه..
وثانياً لئن تشابهت البدايات فلقد تشابهت كذلك النهايات فقد أعز الله المؤمنين في الحالتين.
ولئن لم يقتل زعماء الكفر في الفرقان الجديدة فقد حاق بهم موت سياسي، فخرجوا من الحياة السياسية، كما خرج أولئك من الحياة بالكلية.
وثالثاً إن الأسباب لم تكن مواتية في الحالتين ولا متكافئة ولا متقاربة.. ومع هذا فقد تجلت أمداد الله ونصرة الله ومعية الله ومعونة الله.
أما أوجه المفارقة، فهي متعددة أيضاً لكنها على تعددها لا تلغي أوجه المشابهة.
فأولاً: حدثت تلك في أيام رمضان وهذه حدثت بعد رمضان. وثانياً: كان الذين يقاتلون المؤمنين في الفرقان الأولى عرب تؤيدهم يهود.. والذين يقاتلون المؤمنين في هذه هم اليهود ويؤيدهم العرب. وثالثاً فلئن انتهت بدر وحسمت في يوم واحد، فلقد استغرقت الفرقان الجديدة ثلاثة أسابيع.
وعبرتنا من استرجاع أو استحضار معركة الفرقان في هذه الأيام تعزيز روح الصمود والمقاومة والقتال. فهذا عدو لا يواجه إلا بالقتال. وقد ثبت أن خسائرنا بالسلام وبعد السلام أضعاف ما كان يمكن أن نخسره في المواجهات. هذا إن سمينا ما نقدمه من شهداء يرتقون وترتقي بهم الأمة وروح الأمة، إن سمينا هؤلاء خسارة.. وهي ليست كذلك بالقطع.
أما ما تجلى لنا من خسائر بالوثائق، نتيجة المهزلة التفاوضية فحدّث عن البحر ولا حرج. فأولاً أخذ المجرمون منا اعترافنا بوجودهم ودولتهم الباطلة المحتلة الظالمة بالمجان. وتنازلنا عن وطننا وحق عودة مهجرينا ولاجئينا بالمجان. واقتتلنا لعيون عدونا وخدمة لمشروعه في عمالة وحماقة غير مسبوقة.
ولقد كشفت الوثائق المنشورة مؤخراً ما كان معلوماً بالتقدير والحدس والتخمين، فأصبح معلوماً باليقين، كشفت عن تواطؤ واصل إلى حد الفجور والعهر السياسي..
ومن استمع إليهم شعر كم يملك هؤلاء من صفاقة. وأعلاهم صوتاً لو تعلمون، كان يقف أمام عرفات كالجرذ المذعور أمام أفعى فيشتمه ويشتم كل أفراد عائلته، ولا يرفع بصره ولا رأسه: "مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم.." وهم الآن يردحون ويزعقون ويشتمون ويخونون ويتهمون كالفاجرات اللاتي يصفن باقي النسوة بما فيهن..
ألا ما أشد فجور هؤلاء وصفاقتهم، كأنهم قدت وجوههم من مطاط أو من جلود ال (ق..) بالعراقي!
وذكر السلام الذي ورد في السورة التي تكلمت عن غزوة بدر غزوة الفرقان الأولى ذكرته وقد جنح العدو له، من شدتنا في مواجهته، ورضوخه لشروطنا، فقال المولى الجليل: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" ولو تأملنا موقع الآية من السورة لرأينا الحكمة البالغة في هذا الموقع وفي الطرح كذلك. فقبل آية "وإن جنحوا.." جاء قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" فالعدو جنح نتيجة هذه القوة وثمرة هذا الإعداد ومحصلة ثبات جند الله وعسكر الإيمان ورجالات العقيدة وأبطال التوحيد.
فالسلام في ظل الاختلال في موازين القوى كالذي هو جار مع "سلطة الاحتلال" فهي تمثله أكثر مما تمثل الشعب الفلسطيني، وتعذب الشعب وتخدم وتحرس أمن المستوطنين.. هذه عقيدتهم الأمنية التي رباهم عليها دايتون! وبعد آية "وإن جنحوا.." جاء قوله تعالى: "وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله.." فينبغي أن نضع في البال ولا يغيب عن وعينا أن مطلب السلام لهم أو منهم يمكن أن يكون خدعة ليميلوا علينا في لحظة غفلة منا، أو لحظة مواتية لهم. فالسلام هدنة بين حربين، لا أنه حالة ثابتة كما زعم زاعم العربان إذ قال بعد حرب أكتوبر "دي آخر الحروب!" ولم يفهمها بنو صهيون على هذا الأساس أبداً.. ففي ظلال السلام شنوا أشرس الحروب!
ثم قال السياق الكريم بعد ذلك: "وألف بين قلوبهم" ليفهم القارئ أن وحدتنا سر قوتنا، وسر تجاوزنا لخداع الأعداء وغدرهم ومناوراتهم، والتفافهم والتوائهم. وهذا في واقع السلطة نقيض الواقع أو نقيض المطلوب. فقد مزقوا نسيج المجتمع وفرقوا الكلمة وعذبوا الشعب وأضعفوا روحه.. ولا تسمع منهم إلا تبجحاً وفحيحاً يصم الآذان، وتغن بدماء الشهداء الذين لا صلة لهم بهم. وأغلب القيادات اليوم ممن لا يملك تاريخاً نضالياً. فعباس لم يطلق طلقة في عمره (قص..)، ومتى كان مصائب مناضلاً؟ أو عبد ياسر متى كان مقاوماً أو سواهم من الفرقة!؟
ثم أعقب ذلك في السورة الكريمة: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال.." دلالة على أن السلام يمكن أن يكون –في الواقع وعلى الحقيقة- مجرد مخادعة والحرب خدعة، ومن ضمن خدع الحرب اصطناع رغبة السلام. فحتى لا تكونوا ضحية هذه الحيل والخدع كونوا دائماً على تعبئة قتالية وتحشد، ولذا "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال.."
هذا هو موقع السلام في القرآن الكريم، في ضوء الواقع، وفي ضوء انحراف نفسيات هؤلاء الأعداء، وعدم التزامهم بأية قيم، وعدم معرفتهم بالوفاء، بل على العكس علّمنا التاريخ غدرهم ونقضهم، وشهادة الله فيهم أبلغ شهادة "أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم".
أما الأمة المسلمة فلا يجوز أن يكون قبولها للسلام ناشئاً عن وهن وضعف وتخاذل وملال من القتال واستطوال لمشوار الجهاد، واستبطاء للنصر، واستعجال للنتائج ورغبة في الراحة، وطلباً للقعود، فقال في سورة محمد أو القتال: "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم".
ولا نريد أن نعرج على السودان وتهالك القيادة هناك على عقد سلام مع اللئام بأي شروط وبأي ثمن.. فكانت النتيجة، لا أقول ضياع الجنوب، لا ولكن يؤلمني أن أقول: ضياع السودان. حرسه الله وحفظه على كل حال.
ومن عبرتنا من استحضار هذه المناسبة في ضوء الحدث ذاته وما جرى فيه من بطش وتجاوز وإجرام غير مسبوق في التاريخ، وفي ضوء ما يجري الآن من حراك شعبي، يشمل العالم العربي بجملته، ويظهر كم المسافة من التحرير قريبة إن تحركت الشعوب!
وفي ضوء حدث آخر هو ما يتسرب من وثائق.. أظهرت حجم الغدر لهذه القضية المقدسة ممن يدعي تمثيلها، وممن يحسب نفسه فوق الحساب والمساءلة والمراجعة.. بدعوى أنه يمتلك تاريخاً في حركة ثورية ولا أظن أحداً من هؤلاء إلا كان ملصقاً ملحقاً بالمناضلين ليكون عيناً عليهم، فلا يعقل أن تكون خيانة مستجدة بهذا الفجور. لا بد أن تكون خيانة معتقة مؤصلة متجذرة متعمقة متمكنة غائصة عميقة..
ودرس آخر من دروس معركة الفرقان أن الشعوب لا تكسر ولا تقهر بإذن الله متى أخلي بينها وبين عدوها. إنما الذي كان يحصل دائماً أن الشعوب كان يحال بينها وبين هذا العدو حتى لا تتحقق معجزة التفوق للعزّل على المدججين.. وللشعوب على جيوش الغازين المستكبرين الذين صوروا بصورة القاهرين الذين لا يقهرون فقهرهم الشعب الأعزل المعزول. فكانت هذه المعركة إدانة لتاريخ مشوه مشبوه وفضحاً لمسلسل من الخذلان والتخاذل والخواء.
ينبغي أن يتعانق تاريخ معركة الفرقان الثانية مع جغرافيا الحراك الشعبي..
إن ترسبات هذا النصر في جذور قلوب أفراد الأمة أنبتت مثل هذا الحراك أو أسهمت في هذا الإنبات.
ويا أمة.. لقد رفعت الرأس. وكما قالت مواطنة من مصر: "إني متفاجئة من شعبي".
أما نحن فغير متفاجئين، لأن ثقتنا بهذا الشعب لم تغب ولم تخبُ ولم تخبْ يوماً.. وها هو الشعب يقدم المصداق.. بدءاً من الفرقان.. وانتهاء بالحراك.. من فلسطين إلى تونس إلى اليمن ومصر والعراق.